پنجشنبه: 30/فرو/1403 (الخميس: 9/شوال/1445)

حكم تقلید المیّت استمراراً

وأمّا حكم تقلید المیّت استمراراً، فكما أنّ فی التقلید البدوی إذا كان الحیّ والمیّت متساویین فی العلم ومختلفین فی الفتوى یتعیّن تقلید الحیّ، بل وإن كانا متوافقین فی الفتوى فلاحتمال كون اعتبار الحیاة فی المقلد كاعتبار الإیمان، یكون الحكم فی التقلید الاستمراری أیضاً كالحكم فی البدوی. فإذا كان المیّت الّذی كان مقلّده مساویاً للحیّ

 

فی العلم مختلفاً معه فی الفتوى یتعیّن تقلید الحیّ، لدوران الأمر بین التعیین والتخییر. وكذا إن كانا متوافقین فی الفتوى.

وإذا كان الحیّ أفضل من المیّت، فالمتعیّن أیضاً تقلید الحیّ على القول بوجوب تقلید الأعلم، بل مطلقاً. وإذا كان بالعكس، ففی التقلید الابتدائی قد مرّ الكلام فیه. وعلى القول بوجوب تقلید المیّت الأعلم الحكم فی الاستمراری أیضاً الوجوب. وعلى القول بعدم جواز التقلید البدوی من المیّت مطلقاً یأتی الكلام فی الاستمراری، فهل إذا كان المیّت أفضل من الحیّ أو مساویاً له یجوز ـ بل یجب على فرض كونه أفضل ـ البقاء على تقلیده أو لا یجوز مطلقاً، ولو كان المیّت أفضل؟

یمكن أن یقال: إنّ فی صورة تساویهما فی الفضل یدور الأمر بین تعیّن العدول إلى الحیّ، أو التخییر بین البقاء والعدول، فمقتضى الأصل تعیّن العدول.

وأمّا إذا كان المیّت أفضل من الحیّ، وقلنا بعدم اشتراط الحیاة فی المفتی فی التقلید الاستمراری، فالواجب البقاء. وإن قلنا باشتراط الحیاة مطلقاً، فالواجب العدول إلى الحیّ حتى فی فرض أفضلیة المیّت من الحیّ. فالكلام یدور مدار اشتراط الحیاة فی المفتی ـ فی التقلید الاستمراری ـ وعدمه، ولا یدور الأمر هنا بین التعیین والتخییر، كما یقال فی التقلید الابتدائی: إنّ التقلید من الحیّ مجزٍ مطلقاً سواء كان المیّت أفضل من الحیّ أم لا، وإنّما الكلام فی إجزاء تقلید المیّت كالحیّ وعدمه، لأنّ الإجماع إن كان على جواز الاكتفاء بتقلید الحیّ مطلقاً، لم یدّع تحقّقه هنا إذا كان المیّت أعلم من الحیّ.

فهذا ـ أی وجوب العدول إلى الحیّ أو البقاء إذا كان المیّت أفضل ـ محلّ النزاع، فالأصل فی الطرفین عدم الإجزاء وعدم الخروج عن تحت الأصل الأوّلی الّذی مقتضاه حرمة الاكتفاء بكلّ منهما، فاللازم على هذا الرجوع إلى أدلّة الطرفین، فنقول:

إنّ الدلیل العقلی على جواز البقاء وعدم جواز العدول یقرّر: بأنّ العقل الّذی

 

یوجب على العامیّ والجاهل الرجوع إلى العالم ـ لا یفصل بین حال موته بعد التقلید منه حال حیاته، فهل یمنع العقل من العمل بما أخذ المریض من الطبیب حال حیاته وعمل به بمجرّد موته؟ وهل یعدل إلى الطبیب الحیّ المفضول؟ بل نقول: لولا الإجماع المدّعى على عدم جواز تقلید المیّت ابتداءً لقلنا به فی التقلید الابتدائی أیضاً. فحكم العقل فی جواز الاكتفاء بتقلید العالم مطلق یشمل العالم المیّت والحیّ على السواء، وموجب لتقلید الأعلم منهما إذا كانا مختلفین فی الرأی، خرج من هذا الحكم التقلید الإبتدائی بالإجماع.

وأمّا النقل، فلا ریب فی أنّه إن لم یشمل التقلید الابتدائی یشمل البقاء علیه بعد موت المجتهد، فهل ترى أنّ الّذی أخذ مثلاً بآیة النفر وبنى على ما أخذ ممّن تفقّه فی الدین لا یجوز له العمل به إن مات هو بعد الأخذ والعمل به، بل وقبل العمل؟ فإطلاق هذه الأدلّة إن لم یشمل التقلید الابتدائی من المیّت یشمل التقلید الاستمراری. فقولنا: «اسأل عن العالم واعمل برأیه» وإن لم یشمل العالم المیّت والرجوع إلى كتابه إلّا أنّه یشمل بالإطلاق جواز استمرار العمل برأیه بعد موته.

وأمّا الأصل، فما هو المشترك للتقلید الابتدائی والاستمراری الاستدلال بما مرّ فی تقریر الأصل للتقلید الابتدائی، فإنّه یشمل الاستمراری، وقد مرّ الكلام فیه. وما هو المشترك بین التقلید الاستمراری والابتدائی ما إذا كان المقلّد أدرك زمان المجتهد، فیقال: إنّ هذا كان له الأخذ برأی فلان فی حال حیاته فیكون له ذلك حال موته، والكلام فیه كما مرّ فی سابقه.

والقسم الثالث من تقریر الأصل یختصّ بالتقلید الاستمراری وهو: استصحاب الأحكام الّتی قلّد الحیّ فیها، مثل استصحاب وجوب السورة أو نجاسة الخمر.

واستشكل فیه بأنّه على القول بحجّیة قول المجتهد من باب الطریقیة لیس حكم

 

سابقاً حتى یستصحب، وغایة ما هنا تنجّز الواقع بقوله عند المصادفة، وكونه معذوراً عند المخالفة.

وفیه أوّلاً: أنّ قول المجتهد، أی رأیه المحفوظ عنه بعد موته، كما یمكن أن یكون حجّة من باب الطریقیة فی حیاته یمكن جعله حجّة من باب الطریقیة بعد موته، فإذا شككنا فی بقاء حجّیته نستصحبها.

فإن قلت: إنّ ما هو الموضوع للحجّیة هو الرأی الّذی ینتفی بموته عند العرف وهو الّذی تعلّق به الیقین وهو مقطوع الزوال لیس مشكوك البقاء.

قلت: عند العرف لا یزول رأی الشخص بموته، بل یبقى بعده بوجوده الذهنی فی الأذهان والكتبی فی الكتب، فلا یعتبره العرف کلا رأی وكما لم یكن قبل إبدائه، فهو طریق إلى الواقع بعد موت صاحبه كما كان قبله، وهو مثل الأعلام والعلامات المنصوبة لهدایة الناس فی الطرق والشوارع لا فرق فی طریقیته بین حیاة ناصبها وموته.

وثانیاً: نقول بأنّ هذا یتمّ على القول بأنّ المجعول بالأمارات الحكم التكلیفیّ المولویّ الطریقی، فیستصحب الحكم التقلیدی الطریقی المولوی مثل الحكم بنجاسة الخمر. وبعبارة اُخرى: رأی المجتهد بنجاسة الخمر من أسباب عروض حكم النجاسة علیه لا من مقوّماته الّتی یدور بقاء الحكم وعدم، مدار بقائه وعدمه، وإن شئت فقل: إنّه من الحیثیات التعلیلیة لا التقییدیة، فإذا ثبت الحكم بنجاسته یستصحب بعد زوال رأیه المفروض زواله عند العرف لا فی الواقع.

وقد اُورد على ذلك بأنّ المعتبر فی الاستصحاب بقاء الموضوع، فإذا ثبت كون رأی المجتهد بنجاسة الخمر من أسباب عروض الحكم علیه یجری الاستصحاب المذكور، ولكن من المحتمل بل المقطوع به أنّ رأی المجتهد یكون من مقوّمات هذا الحكم فیزول بزواله والفرض أنّه عند العرف یزول الرأی به بموت المجتهد.

 

وبعبارة اُخرى إذا كان الرأی من أسباب عروض حكم حرمة العصیر علیه یكون تبدّل رأی المجتهد أو زوال رأیه بالموت من ارتفاع الحكم عن موضوعه، فإذا شكکنا فیه نحكم ببقائه بالاستصحاب، بخلاف ما إذا كان من مقوّمات الموضوع، فإنّه بزوال الرأی بالموت ینتفی الحكم أیضاً لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعه. وفی المقام ولو لم نقل بكون الرأی من مقوّمات الحكم إلّا أنّه لا یمكن ردّ احتماله، كاحتمال كونه من أسباب عروضه، فلا یصحّ استصحاب الحكم لاعتبار إحراز بقاء الموضوع، أی نجاسة الخمر أو حرمة العصیر، مع أنّه مشكوك البقاء.

فتلخص من ذلك کلّه: أنّ احتمال عدم كون الأحكام التقلیدیة حكماً لموضوعاتها بقول مطلق، واحتمال كونها باقیاً ببقاء رأی المجتهد یكفی فی عدم صحّة إجراء استصحاب الحكم بعد زوال رأی المجتهد بالموت، فتدبّر.

ویمكن أن یقال: إنّ الظاهر كون رأی المجتهد من أسباب عروض الحكم لا من القیود المقوّمة له واحتمال كونه من القیود خلاف الظاهر.

 

 

موضوع: 
نويسنده: