جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

فصل
فی تقلید الأعلم

إعلم: أنّه لا إشكال فی أنّ العالم الواجد لشرائط رجوع الجاهل إلیه إذا كان واحداً یجب الرجوع إلیه بناءً على وجوب الرجوع إلى الحیّ دون المیّت، وسیأتی الكلام فیه إن شاء الله تعالى.

وأمّا إذا كانوا متعدّدین، فإن كانوا متساوین فی العلم ومتوافقین فی الفتوى یجوز الأخذ بما هو رأی الجمیع بما أنّه رأیهم، فإنّه أولى بالإجزاء من الاعتماد على أحدهم المعیّن.

ولیس المقام كالائتمام بالإمامین فی الجماعة الّتی لابدّ وأن تكون بإمام واحد، فإنّه أمر تعبّدی صرف لم تثبت مشروعیته.

وهكذا إذا كانوا مختلفین فی العلم متوافقین فی الفتوى مع عدم العلم بالأعلم منهم، إلّا أنّ المعیار هنا على فتوى من كان منهم أعلم فی الواقع، فالاعتماد یكون على رأی الأعلم الواقعی منهم.

وإذا كانوا متساوین فی العلم مختلفین فی الفتوى، فإن أمكن الاحتیاط ولا ینتهی إلى العسر وما لا یرضى به الشارع، یحتاط، كما إذا كان فتوى أحد المجتهدین على الوجوب والآخر على الجواز والثالث على الاستحباب، أو كان فتوى أحدهم الحرمة والآخر

 

الكراهة والثالث الجواز. وأمّا إن لم یمكن الاحتیاط، كما إذا دار الأمر بین المحذورین من الوجوب أو الحرمة، أو كان الاحتیاط موجباً للعسر والحرج، ففیما یوجب العـسر یحتاط فیما دون العسـر، وفیما یدور بین المحذورین یأخذ برأی أیّهما شاء.

وأمّا إن كانوا مختلفین فی العلم والفقه وفی الفتوى، فهل یجب تقلید الأعلم منهم، أو یجوز تقلید غیر الأعلم كالأعلم على السواء. والكلام یقع فی مقامین:

المقام الأوّل: فی تكلیف المقلّد، فلا ریب فی أنّه یجب علیه عقلاً إذا احتمل تعیّن تقلید الأعلم أن یبنی فی المسألة الاُصولیة (تقلید الأعلم) على وجوبه. وفی المسائل الفرعیة على تقلید من یرى الأعلم جواز تقلیده وإن كان هو غیر الأعلم، أو یعمل فی المسائل الفرعیة بالاحتیاط بتقلید الأعلم. والوجه فی ذلك: حصول القطع ببراءة الذمّة عن التكلیف بذلك فإنّه، إمّا یكون الواجب علیه تقلید الأعلم، أو یكون مخیّراً بینه وبین تقلید غیره، فجواز الاكتفاء بالأوّل یقینی، والثانی مشكوك فیه ویكفی ذلك فی عدم حجّیته، والقول بجوازه مستلزم لتوقّف الشیء على نفسه أو التسلسل.

المقام الثانی: وهو فی بیان حكم المسألة فی نفسها، وأنّه بحسب الأدلّة هل حكم الله الواقعی هو وجوب تقلید الأعلم، أو التخییر بینه وبین تقلید غیر الأعلم؟ فینبغی النظر فی أدلّة الطرفین، فنقول: قد ذكر فی الكفایة([1]) من أدلّة عدم جواز تقلید غیر الأعلم الأصل.

یمكن أن یكون المراد منه عدم الخروج عمّا فی ذمّته بتقلید غیر الأعلم، واستصحاب بقاء التكلیف. أو أنّ الأصل عند دوران الأمر بین التعیین والتخییر هو التعیین، لأنّ الأمر یدور بین الأخذ بما هو معلوم حجّیته وما هو مشكوك

 

، والعقل مستقلّ بوجوب الأخذ بالأوّل إمّا بالبدیهة، أو لأنّ الأمر یدور بین الأخذ بالحجّة وما هو لیس بحجّة، أی المشكوك حجّیته إذ یكفی فی عدم حجّیته الشكّ فی حجّیته.

لا یقال: لم لا یتساقطان بالتعارض؟ كما هو الشأن فی باب تعارض الأمارتین الحجّتین.

فإنّه یقال: لیس فی باب تعارض الأمارتین الإجماع على وجوب الأخذ بإحداهما فتتساقطان بالتعارض، بخلاف المقام، ومقتضى ذلك وجوب تقلید الأعلم.

فإن قلت: الأصل مقطوع بالدلیل، وهو إطلاق ما دلّ من العقل على جواز التقلید ورجوع الجاهل إلى العالم، وعدم ما یمكن أن یكون مقیّداً له فی المقام.

قلت: نمنع الإطلاق، لأنّ الأدلّة إنّما صدرت للإرشاد إلى نفس حسن رجوع الجاهل إلى العالم، دون بیان تفاصیله. نعم، لو قلنا بالإطلاق فالظاهر أنّه لا إطلاق فیما یدلّ على تقییده بالأعلم، لأنّه مختصّ بمورده الخاصّ، فیبقى غیره تحت الإطلاق.

وإن قلت: لكنّ السیرة([2]) قد استقرّت من أصحاب الأئمّة^ على الأخذ بفتوى أحد المخالفَین من دون الفحص عن أعلمیته، مع العلم بأعلمیة أحدهما.

قلت: نمنع تحقّق السیرة، بل یمكن دعوى سیرة المبالین بالدین على الفحص، فإذا كانوا هم بحكم جبلّتهم وفطرتهم مبالین بفتوى الأعلم المعیّن من بینهما، مقبّحین العمل بفتوى غیره، فكیف یعملون بفتوى أحدهما غیر المعلوم أعلمیته بدون الفحص عن الأعلم مع العلم بأعلمیة أحدهما؟! فتحقّق السیرة على خلاف ذلك فی غایة البعد.

إن قلت: الحكم بعدم جواز التقلید من غیر الأعلم یوجب العسر للمقلّد والمقلّد،

 

بل یمكن أن یقال بعدم إمكانه، فكیف یمكن لشخص واحد الجواب عن استفتاءات جمیع الاُمّة؟ وكیف یمكن للجمیع الوصول إلیه؟

قلت: یمكن للجمیع أخذ فتاواه من رسالته وكتبه، والناقلین عنه من أهل الثقة، فلا یلزم منه عسر لا على هذا ولا على ذاك.

وهكذا لا یوجب القول بوجوب تقلید الأعلم العـسر فی تشخیصه، كما أنّه لا عسـر فی تشخیص المجتهد. وعلى فرض لزوم العسر یجب علیه الاحتیاط فیما دونه.

هذا، وقد استدلّ لعدم جواز تقلید غیر الأعلم بوجوه: منها: الإجماع.([3])

وردّ: بمنع تحقّقه أوّلاً. ومنع حجّیته على فرض تحقّقه ثانیاً، لأنّه من المحتمل المدرك، لاحتمال كون مدرك المجمعین ـ جمیعهم أو بعضهم ـ الأصل الّذی تقدّم ذكره.

ومنها: الأخبار الدالّة على ترجیح قول الأفقه فی صورة المعارضة.([4])

وفیه: أنّها فی مقام القضاء والحكم بالموضوع.

ولو سلّم أنّ النزاع والمخاصمة كانت لأجل الشبهة الحكمیة من جهة الاختلاف فی دین أو میراث، فلا یدلّ ذلك على أزید من ترجیح قول الأفضل، لعدم إمكان رفع التخاصم إلّا به.

ولكنّ الإنصاف مع ذلك أنّ هذه الأخبار لا تخلو من الدلالة على وجوب

 

الأخذ بفتوى الأفضل إذا دار الأمر بین المحذورین، كمقام المرافعة والمخاصمة، وبعدم القول بالفصل، بل القول بعدم الفصل، یقال بوجوب الأخذ بفتوى الأعلم مطلقاً، فتأمّل.

ومنها: إنّ قول الأفضل أقرب من غیره جزماً.([5]) وإن شئت قل: احتمال كونه الواقع أقوى من احتمال قول الفاضل.

والجواب عنه: أنّه ممنوع صغرویاً وكبرویاً. أمّا من حیث الصغرى: فإنّ مجرد كون القائل بقول أفضل من غیره لا یوجب كون احتمال إصابته إلى الواقع أقوى مطلقاً ولو كان قول غیر الأفضل مطابقاً للمشهور أو لقول من هو أعلم منهما من الأموات.

وأمّا من حیث الكبرى: فلأنّ ملاك حجّیة قول المجتهد شرعاً ـ ولو على نحو الطریقیة ـ لم یعلم أنّه لقربه إلى الواقع، حتى یحكم عند المعارضة بوجوب الأخذ بقول الأعلم لأنّه أقرب إلى الواقع، بل یمكن أن یكون ملاك حجّیته أمراً آخر لا یتفاوت فیه كونه من الأعلم أو غیره.

وقد یجاب عن ذلك إمّا بمنع أنّ الكلام فی تعارض قول الفاضل مع الأفضل بنفسهما لا بملاحظة ما یقارنهما ویوجب تفصیل أحدهما على الآخر، فیمكن أن یقال بعدم وجوب تقلید الأعلم إذا كان قول الأعلم منهما من الأموات موافقاً لغیر الأعلم.

وإمّا بمنع الكبرى، بأنّ حجّیة قول المجتهد بأیّ ملاك كان هو فی قول الأعلم

 

أكثر أو أقوى، فلا یجوز مع وجود الأقوى الأخذ بالأضعف، مثلاً: إذا كان الملاك غلبة الإصابة فیمكن دعوى كون ذلك أقوى فی قول الأعلم بالنسبة إلى غیره. والله هو الهادی. 

 

 

 

([1]) الخراسانی، كفایة الاُصول، ج2، ص439.

([2]) راجع: الإیجی، شرح مختصر الاُصول، ص484.

([3]) الکلانتری الطهرانی، مطارح الأنظار، ص303، التنبیه السادس، عند استدلاله على القول بوجوب تقلید الأفضل.

([4]) كما فی المقبولة (الطوسی، تهذیب الأحکام، ج6، ص301، ب92، ح6؛ الکلینی، الكافی، ج1، ص54، باب اختلاف الحدیث من كتاب فضل العلم، ح10). وغیرها من الأخبار (الطوسی، تهذیب الأحکام، ج6، ص301، ب92، ح50 و51؛ الصدوق، من لا یحـضره الفقیه، ج3، ص5، ب9، ح1 و2). وانظر أیضاً المنقول عن أمیر المؤمنین×: «اختر للحكم بین الناس أفضل رعیتك». نهج البلاغة، فی كتابه× لمالك الأشتر، کتاب 53 (ج3، ص 94).

([5]) الشریف المرتضی، الذریعة إلی اُصول الـشریعة، ج2، ص801، باب الاجتهاد، فصل صفة المفتی والمستفتی؛ العاملی، معالم الدین، ص241.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: