جمعه: 7/ارد/1403 (الجمعة: 17/شوال/1445)

الأمر الثالث:
فی ألفاظ المطلق

قد ظهر لك ممّا حقّقناه أنّ إطلاق المطلق على اللفظ لیس من جهة وجود خصوصیة فی معناه الموضوع له حتى لا یتّصف بالإطلاق ما لیست له هذه الخصوصیة. وبعدما حقّقناه فی المقام لا نحتاج إلى ما تعرّض إلیه فی الكفایة([1]) لبیان بعض الألفاظ الّتی یطلق علیه المطلق وغیرها، لأنّه على ما اخترناه أجنبیّ عن المقام. ومع ذلك نذكرها تبعاً له+.

فمنها: اسم الجنس، كإنسان ورجل وبقر وفرس وحیوان وسواد وبیاض وغیرها. وأفاد بأنّها موضوعة لمفاهیمها بما هی مبهمة مهملة من غیر ملاحظة شرط معها حتى ملاحظة إرسالها وإبهامها كذلك. وهذا ما یعبّر عنه باللابشـرط المقسمی، فلا تكون موضوعة لمفاهیمها بـشرط لحاظ شیء معها حتى تكون موضوعة للماهیة بـشرط شی‏ء، ولا موضوعة لمفاهیمها مع عدم لحاظ شیء معها حتى تكون موضوعة للماهیة بشـرط لا، ولا تكون أیضاً موضوعة للماهیة اللابـشرط القسمی؛ لأنّه كلّی عقلی لا موطن له إلّا الذهن.

هذا، ولكنّه لو لم یأت بهذه الاصطلاحات وقال بأنّ الموضوع له فی أسماء الأجناس

 

إنّما یكون ذوات المفاهیم من غیر دخل شیء فیه حتى الوجود والعدم وما ینتزع منه كالشیئیة والصفات العارضة له باعتبار وجودها، لكان أولى.

ومنها: علم الجنس، كاُسامة. والمشهور وإن كان أنّه موضوع للطبیعة لا بما هی هی بل بما هی متعیّنة فی الذهن،([2]) ولذا یعامل معه معاملة المعرفة بدون أدات التعریف. ولكنّ الحقّ عدم كونه موضوعاً للماهیة المقیّدة بقید حضوره فی الذهن والتعیین الذهنی؛ لأنّ تعیّن الماهیة لیس دائراً مدار ذلك بل هی متعیّنة، ولا دخالة لأخذ هذا القید ـ أی قید تعیّنها فی الذهن ـ فی تعیّنها الماهوی، فهی متعیّنة لوحظ معها هذا أم لا. مضافاً إلى أنّه لو كان موضوعاً للماهیة مع هذا القید لما یصدق على الأفراد. ولا یمكن حمله على الخارجیات إلّا بالتجرید عن هذه الخصوصیة والحال أنّه یستعمل فی الأفراد بدون تصرّف ولا تأویل. هذا، مع أنّه ممّا لا یلائمه حكمة الوضع.

وأمّا كون علم الجنس معرفة بخلاف اسم الجنس، فهو فرق لفظی ولا یلزم منه الفرق بحسب المعنى كما هو الحال فی المؤنّثات السماعیة.

ومنها: المفرد المعرَّف باللام. وهو على قسمین: تارة یطلق على حصّة من الحقیقة الّتی تكون معهوداً بین المتکلّم والمخاطب لتقدّم ذكر تلك الحصّة بالصراحة أو الكنایة، كما فی قوله تعالى: ﴿وَلَیْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى﴾،([3]) أو لعلم المخاطب به بالقرائن نحو «خرج الملك»، أو لحضور هذا الفرد مثل «هذا الرجل»، وهذا هو الموسوم بالعهد الذكری والعهد الحضوری.

وتارة اُخرى: یطلق اسم الجنس المعرّف باللام على نفس الحقیقة، فإمّا لا یكون

 

النظر إلّا إلى نفس الحقیقة مع قطع النظر عن مصادیقها، وإمّا أن یطلق على الحصّة المعیّنة منها، وإمّا أن یطلق على الحصّة غیر المعیّنة، وإمّا أن یطلق على کلّ الأفراد. فاللام فی الأوّل تسمّى بحقیقة الجنس، وفی الثانی بالعهد الخارجی، وفی الثالث بالعهد الذهنی، وفی الرابع بالاستغراق.

وكیف كان، فلا إشكال فی تعریف المفرد المعرّف باللام بحسب اللفظ. وقد صار أهل الأدب فی مقام إرجاع ذلك إلى خصوصیة ملحوظة فی المعنى، فقال بعضهم: إنّ اللام موضوعة للتعریف ومفیدة للتعیین فی غیر العهد الذهنی.

وفیه: ما ذكرناه فی عَلَم الجنس من أنّ ذلك القید لا یفید التعیین، بل الملاك فی التعیین صحّة حمل المعیّنیة بالحمل الشائع الصناعی علیه. وهذه صادقة على مفاهیم أسماء الأجناس، وما هو مدخول لام التعریف. ولا فائدة لهذا القید غیر أنّه مانع لصدق المفهوم على الخارجیات.

وذهب بعضهم:([4]) إلى أنّ وجه التعریف كون اللام موضوعة للإشارة فإذا اُطلق المفرد المعرّف باللام على نفس الحقیقة یشار بها إلیها، وكذلك إذا اُرید منه الاستغراق، أو غیره. فالتعریف إنّما یجیء من قبل الإشارة.

وفیه: أنّه على هذا یجب أن لا یصحّ استعمال «هذا الإنسان»، لأنّه یلزم منه إشارتان (من هذا، واللام)، مع أنّ هذا الاستعمال كثیر فی كلام العرب.

والظاهر أنّه لا فرق بین اسم الجنس المعرّف باللام وبین اسم الجنس غیر المعرّف إلّا من جهة التنكیر والتعریف اللفظی. فاسم الجنس لابدّ أن یستعمل مع اللام، أو

 

بدونها مع التنوین، وبدونهما مع الإضافة كغلام زید، فإنّه مستعمل فی نفس مفهومه بما هو هو، وخصوصیته فی المقام إنّما تفهم من دالّ آخر وهو إضافته إلى زید.

وأمّا أنّ اللام فی جمیع الموارد یكون للتزیین، كما زعمه فی الكفایة.([5])

ففیه: إنّما یكون للتزیین ویفید الزینة إذا كان العَلَم الّذی علیه اللام صفة من الصفات، كالحسن والحسین. فدخول اللام علیه كأنّه یشیر إلى المعنى الأصلی، وأنّه جعل هذا اللفظ علماً لهذا الشخص من جهة أنّه موصوف بتلك الصفة.

وكذلك الجمع المعرّف باللام، فدلالته على العموم لیست من قبل اللام، ولأجل دلالة اللام على تعیین المرتبة المستغرقة لجمیع الأفراد،([6]) بل إنّما یدلّ على الاستغراق من دون توسیط دلالة اللام على التعیین.

وأمّا ما أفاد فی الكفایة من تعیّن المرتبة الاُخرى وهی أقلّ مراتب الجمع إذا لم تكن دلالته على المرتبة المستغرقة مستنداً إلى الوضع.([7])

ففیه: أنّه لا مجال لدلالته على القدر المتیقّن؛ لأنّ المتکلّم إذا لاحظ تمام ما یصلح له المفهوم وألقى اللفظ الدالّ علیه، مثل «مردها» بالفارسیة، فلا مجال لأخذ القدر المتیقن، بل لفظه الملقى ظاهر فی جمیع الأفراد والمراتب، إلّا أن یدلّ علیه دلیل من الخارج، وقد ذكرنا ذلك فی صدر مبحث العامّ والخاصّ.

وملخّص الكلام: أنّ القول بكون اللام موضوعة للماهیة والحقیقة بقید تعیّنها فی الذهن، أو موضوعة للإشارة إلى مدخولها، أو أن یكون للمفرد المعرّف وضع خاصّ بسببه یدلّ على معنى خاصّ غیر ما هو مفاد الأسماء الموضوعة للمعانی الكلّیة، ممّا لم

 

نقف على دلیله. فعلى هذا، استفادة الخصوصیات إنّما تكون من قبل الخصوصیات الحالیة والمقالیة الّتی تكون موجودة فی كلام أهل المحاورة.

ومنها: النكرة، مثل «رجل» فی «جاء رجل» وقولك: «جئنی برجل». ویظهر من المحقّق القمّی& كون مفادها كلّیاً، لأنّ اللفظ موضوع لمفهوم كلّی فإذا جاء فی الكلام منكراً یفید ضمّ قید الوحدة إلیه، وهو أیضاً كلّی.([8]) وأمّا رجل فی قولك: «جاء رجل» فهو اُطلق فی الفرد المعیّن خارجاً والمجهول عند المخاطب.

وصاحب الفصول& ذهب إلى كونها جزئیّاً حقیقیّاً من جهة أنّ النكرة تدلّ على أحد الأفراد المردّد بینها،([9]) كما هو الأمر فی متعلّق العلم الإجمالی، فعلمك بالإجمال بأنّ إناء زید نجس أو إناء عمرو لا یصیر سبباً لكون متعلّق العلم كلّیا، وفیما نحن فیه لو قال: «جئنی برجل» فمجیئك بالرجل وإن كان یصدق على هذا وعلى هذا، وهذا بحیث لاحظ الآمر جمیع هذه الأفراد ولكن بالنسبة إلى کلّ فرد منها كأنّه لاحظ المجیء تارة ولم یلاحظه اُخرى، فتارة یجیء لحاظه فی الذهن. ویذهب تارة اُخرى.

والمحقّق الخراسانی بعد ما أفاد بأنّ المفهوم فی المثال الأوّل هو الفرد المعین ولو بنحو تعدّد الدالّ والمدلول، أفاد بأنّ صحّة حمل رجل فی «جئنی برجل» على کلّ فرد من الأفراد مع عدم صدقه على هذا الفرد أو غیره على سبیل التردید، كما اختار صاحب الفصول&، دلیل على كلیّة معنى النكرة. كما أنّ صدق الامتثال والإتیان بالمأمور به ـ لو أتى کلّ واحد من المكلّفین بالمأمور به مع كونه نكرة ـ علیه، دلیل آخر على كلیّة معناها.([10]) وهذا كلام متین.

 

نعم، یمكن أن یقال: إنّ اللاحظ حیث یرى الحصّة والطبیعة بقید الوحدة باعتبار الوجود، فیرى وجوداً واحداً مردّداً بین كثیرین، وتردّد هذا الواحد الجزئی بین الأفراد لا یخرجه عن جزئیته، ولا یصیر بذلك كلّیاً، كما أنّ الإنسان إذا رأى شبحاً من بعید وتردّد فی أنّه إنسان أو حیوان أو زید أو عمرو لا یخرجه ذلك التردّد عن الجزئیة.

ولكن لا یخفى ضعف هذا أیضاً؛ لأنّ مع هذا التوجیه لا یصیر الكلّى جزئیّاً، ولا یصیر ما لا یمتنع فرض صدقه على كثیرین ـ وهو الفرد المردّد والشبح فی المثال ـ ممّا یمتنع فرض صدقه على كثیرین.

وكیف كان، لا فائدة عملیة فی تعقیب ذلك. كما أنّه لا فائدة فی معرفة أنّ اسم الجنس المعرّف باللام دلالته على کلّ واحد من المعانی الّتی یراد منها هل هی من جهة وضع اللام أو المفرد المعرّف أو یستفاد من الخصوصیات الخارجیة؟

وما ینبغی أن نقول هنا: إنّ ملاك صدق الأحكام على الموضوعات الّتی یعبّر عنها فی المعقول بالمصادیق تارة: یكون الطبیعة من غیر ملاحظة وجودها. واُخرى: یكون الطبیعة لكن مع لحاظ وجودها. وثالثة: یكون الطبیعة مع لحاظ تمام الوجودات المندرجة فیها، بحیث تجعل الطبیعة مرآة ویرى منها جمیع الأفراد بالإجمال، فإذا كان ملاك صدق الحكم على الموضوع كون الطبیعة ملحوظة ومقصودة من غیر أن یكون نظره إلى الوجودات بحیث كان مركب الحكم نفس الطبیعة، أو كان نفس الطبیعة لكن باعتبار وجودها الخارجی المردد بین وجوداتها بحیث كان مركب الحكم هذا الوجود الخارجی المردّد، یكون مركب الحكم مطلقاً ویصح إطلاق وصف المطلق علیه، فلا ارتباط لما ذكره فی الكفایة بما ذكرناه فی المقام.

ومن هنا ظهر الفرق بین العامّ والمطلق؛ فإنّ فی العامّ إنّما یكون ملاك صدق الحكم على الموضوع ملاحظة الحاكم المعنى الّذی جعله مركباً للحكم مرآةً لجمیع أفراده بحیث تكون الطبیعة آلةً لملاحظة جمیع الأفراد والوجودات، بخلاف المطلق.

 

 

 

([1]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص376 378.

([2]) الصبّان، شرح الاُشمونی مع حاشیة الصبّان، ج1، ص135 136؛ السیوطی، همع الهوامع، ج1، ص70؛ الأزهری، شرح التصریح علی التوضیح، ج1، ص125.

([3]) آل عمران، 36.

([4]) ابن هشام الأنصاری، مغنی اللبیب، ص25؛ رضی الدین الأسترآبادی، شرح الکافیة، ج2، ص130 - 131؛ التفتازانی، المطوّل، ص63.

([5]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص380.

([6]) الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص169.

([7]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص381.

([8]) القمّی، قوانین الاُصول، ج1، ص204،208، 212.

([9]) الأصفهانی، الفصول الغرویة، ص163.

([10]) الخراسانی، کفایة الاُصول، ج1، ص381 382.

موضوع: 
نويسنده: 
کليد واژه: